الربيع العربي الإسلامي بين التكنولوجيا والجيوسياسة

تتعدد الأسباب وراء إنطلاق الربيع العربي من تونس بنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وبلوغ أقصى مداه في مصر في 25 يناير 2011 وبفارق أسابيع قليلة. قد يختلف المحللون في تفسير الأسباب نوعا وتأثيرا، وقد يختلفون لزمن طويل قبل سبر غور جميع الأسباب والإتفاق عليها. ولكن هناك مشهدا واقعيا حيا لتلك الثورة أجمع عليه الكثيرون ولا أعتقد أن عليه خلاف كبير، وهو أن ردود الفعل الأمريكية كانت، كما نقلتها وسائط الإعلام، تبدو دائما متأخرة بخطوة واحدة عن حركة ثورة الشباب المصري في ميدان التحرير بالقاهرة. أي أن المشهد بدا وكأن مركز الهيمنة الأمريكي بكل مكوناته المعقدة من مراكز فكرية وبحثية ومخابرات مركزية لاتعرف لقدمها موطئا ولا لسيرها إتجاها، وراحت تتبع خطى شباب التحرير خطوة بخطوة، ناهيك عن تفاجؤ وتخبط وإنهيار الأطراف المحلية المهيمن عليها بكل أدواتها القمعية والأمنية في المنطقة العربية. بدا الجانب الآخر من المشهد أن حركة الشعوب المقهورة كانت بالحس الإنساني الفطري أقدر وأسرع في الإمساك باللحظة التاريخية دون ما مراكز للفكر أو البحث أو الإستخبار! إلا أن هناك منحى عكسي ومتناقض تماما مع هذا المشهد بجانبيه، وقد تبدى في ما تم نشره إعلاميا قبيل إنطلاق شرارة الثورة في تونس مباشرة! فقد أصدرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية الجزء "89" برقم "6"، عن شهري نوفمبر وديسمبر 2011، بعنوان "العالم أمامنا". خُصِص هذا الإصدار لتحليل نتائج العقد الأول من الألفية الثالثة ويستشرف العقد التالي! وإحتوى على مقالات متعددة غطت معظم مقومات السياسة الخارجية الأمريكية من شئون سياسية وإقتصادية وإجتماعية وتكنولوجية وغيرها. بدا المشهد المتناقض مع ما يوحي به مشهد قيادة ميدان التحرير لحركة الحدث الكبير في مقال بعنوان "التمزق الرقمي" كتبه كل من إيريك شميدت الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، عملاق الإنترنت الشهير، و جيرد كوهين مدير الأفكار بنفس الشركة!. وقد يكون جديرا بالذكر أن الصحافة الأمريكية نشرت في 2 ديسمبر 2011، وأثناء كتابة هذا المقال، أنه قد تم إختيار جيرد كوهين ضمن قائمة أكثر 7 شخصيات قيادة وتأثيرا في أمريكا عن عام 2011، ومن المشرف أن يكون الدكتور أحمد زيل ضمن هذه القائمة. يتبلور التناقض في أن المقال المنشور قبيل الربيع العربي مباشرة يتنبأ بالحدث تحديدا وبدقة من حيث هو فعل آت لا محالة، إلا أنه لم يحدد زمن ذلك الفعل! فهل كانت حركة الشباب في كل من تونس وميدان التحرير بالقاهرة مقودة بشكل غير مباشر من قبل "جهات خارجية" كما إدعت نظم الإستبداد الحاكمة دفاعا عن نفسها في وجه الثورة؟! في ذلك المقال؛ "التمزق الرقمي"، طرح الكاتبان فكرة جديدة تماما وهي أن هناك قوة أو سلطة سياسية جديدة قد ظهرت وفرضت نفسها على باقي السلطات التي تشكل الدولة، أي دولة، وهي السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية مع السلطة الرابعة وهي الصحافة والإعلام. هذه السلطة الجديدة هي سلطة "التواصل" أو القدرة على التواصل، وهي قدرة تولدت من رحم التكنولوجيا الرقمية، أي الحاسب الآلي، ممثلة في تطبيقات شبكة الإنترنت وتحديدا فيما يعرف بالفيس بوك والتويتر واليو يتوب. يبدأ المقال بتقرير: "أن قوة تكنولوجيا الإتصالات – الأدوات التي تصل بين الناس وكمية هائلة من المعلومات وبين الناس وبعضهم – سوف تجعل القرن الواحد والعشرين كله مفاجآت! فسوف يتم ضبط الحكومات على غفلة عندما تخرج أعداد كبيرة من مواطنيها مسلحين بلا شئ حرفيا سوى هواتفهم المحمولة، يشاركون في تمردات صغيرة تتحدى سلطة تلك الحكومات. وبالنسبة لوسائط الإعلام فإن التقارير سوف تصير بإضطراد عملا مشتركا بين مؤسسات الأخبار التقليدية والعدد المتزايد بسرعة من الصحفيين المواطنين". ليس من المفاجأة إذن وطبقا لتلك المقدمة أن تنفجر ثورتا تونس ومصر خلال أسابيع من نشر ذلك المقال! وأن نتعلم كمشاهدين أهمية التقارير والمقاطع المصورة المنقولة عبر الإنترنت في صنع الأحداث وليس فقط في تسجيلها. في مقطع آخر ذي دلالة واضحة يؤكد كل من شميدت وكوهين: "بالرغم من أنه في الواقع فإن الحكومات والقطاع الخاص سيستمران في إمتلاك القوة الأعظم، فإن أي محاولة لفرض التحدي السياسي والإقتصادي عن طريق تكنولوجيات الإتصال سوف يفشل بدون الإنخراط العميق للقوى الأخرى الصاعدة في هذا المجال – وبالتحديد، المنظمات غير الحكومية والنشطاء. إن الفعل الحقيقي في "دولة التواصل" تلك يمكن أن تجدها في المكاتب المتشنجة في القاهرة، وفي غرف المعيشة الخاصة في أمريكا اللاتينية وفي شوارع طهران. من تلك المواقع وغيرها، يقوم النشطاء ومهاويس التكنولوجيا بتجييش وتعبئة ‘الجماهير الحاشدة المفاجئة‘ التي تهز قواعد الحكومات الإستبدادية، وبناء أدوات جديدة لإختراق برامج الحماية والرقابة الإلكترونية، وإذاعة التقارير والصور عبر تويتر عن وثائق حقوق الإنسان في عصر الإنترنت. إذا نظرنا إلى تلك الجهود كل على حدة، فقد يبدو الأمر غير عملي أو غير مهم، ولكنها لو أخذت مجمعة فسوف تمثل تغييرا ذا دلالة قوية في العملية الديموقراطية.............في الجانب المضئ فإن إنتشار التكنولوجيا في الأمم المتواصلة جزئيا مثل مصر تعمل على كسر الحواجز التقليدية مثل العمر والجنس والمستوى الإجتماعي." بقراءة هذا المقطع لابد وأن يستعيد القارئ كل تلك التقارير والتحليلات التي صدرت ومازالت تنشر إعلاميا عن دور المنظمات غير الحكومية والنشطاء في صنع الربيع العربي، وتلك الإتهامات التي وجهت للشباب في ميدان التحرير بالعمالة لأطراف خارجية! إتهامات وصلت بالعديد ومنهم الشهير "وائل غنيم" الذي يعمل بالفعل في شركة جوجل! إلى محاكمات عسكرية والزج بهم خلف القضبان! إلا أن التهم الفعلية التي وجهت إليهم لم تشمل أبدا أي نوع من "العمالة الخارجية"! إن شميدت وكوهين يصفان ما حدث في ميدان التحرير بمنتهى الدقة قبل أن يحدث بشهرين!، بل وأتيا على ذكر القاهرة ومصر تحديدا، ولكن المجلس الأعلى العسكري في مصر بعد ثورة 25 يناير والذي تولى السلطة في مصر بحكم الظرف التاريخي - بغض النظر عن السجالات الدستورية في ذلك - لم يعلن أبدا عن إثبات أي صلة مباشرة بين الثورة والعمالة رغم كثرة الإتهامات الجزافية في إعلام الثورة المضادة وحتى من بعض من أعضاء المجلس الأعلى العسكري نفسه!. هذا وللمفارقة التاريخية، فإن المؤسسة العسكرية هي التي إعترفت بالثورة وإنضمت إليها في الوقت المناسب، تضامنا أو إضطرارا، فوقعت في متناقضة لا مفر منها، بين تبني الثورة بالأمر الواقع من جهة، وإتهام شباب الثورة بشكل غير مفهوم أو مبرر حتى الآن من جهة أخرى. من هنا جاءت الإتهامات تلفيقية ومن قبيل تلك التهم المبتذلة والجاهزة سلفا بالعنف ومقاومة أو إهانة السلطات! إن هذه المتناقضة غير المفهومة لابد وأن تحيلنا إلى مستوى آخر من التحليل في محاولة الفهم لسلوك المجلس الأعلى العسكري في مصر الذي بدا لمعظم المصريين غير مفهوم، بل ووصل الإمر إلى إتهامه بالتواطؤ مع النظام المستبد القديم والثورة المضادة، بل ونادى ميدان التحرير بسقوط "المشير" مثلما فعل مع مبارك المخلوع. لم يخفف من الإحتقان إلا بدء الإنتخابات البرلمانية مؤخرا تحت حماية الجيش أساسا، ونجحت إلى حد مذهل بل ومفاجئ. لا أعتقد في جدوى محاولات قراءة هذا المشهد على مستوى الأحداث اليومية وأخبار الإعلام وتحليلات خبراء الفضائيات التي تلهث وراء الربح والإنتشار في "مولد الثورة". إن معظم التحليلات المطروحة لفهم المشهد، أسبابه ونتائجه المستقبلية، لم تتخط القشرة التكتيكية للأحداث، بل إنني لا أذكر أحدا أتى على ذكر لفظة "جيوسياسة" أو "جيوبوليتيك" أو "جيوستراتيجي" في كل هذا السيل الإعلامي الهادر بشأن الربيع العربي، ربما مرة واحدة فقط سمعتها على قناة الحوار اللندنية! هذا رغم أن الجيوسياسة قد تكون هي المدخل الاقرب لقراءة وفهم هذا الإنقلاب التاريخي. إن التكنولوجيا وحدها لا تصنع الحدث ولا التاريخ، وإنما هي العامل الأكثر تأثيرا من محركات التاريخ المتعددة من سياسية وإقتصادية وإجتماعية، وخاصة جيوسياسية، وهي موضوعنا هنا. يقر بذلك كاتبا المقال؛ شميدت وكوهين حيث يقولا: "...لسنا ندعي هنا أن تكنولوجيات الإتصال سوف تقوم بتغيير العالم وحدها، ولكنها توفر طريقة جديدة لممارسة واجب حماية المواطنين حول العالم والذين تساء معاملتهم من قبل حكوماتهم أو يمنعون من إبداء آرائهم." لم يخترع كل من شميدت وكوهين دور التكنولوجيا في صناعة التاريخ، ولم يدعيا ذلك. فقد سبقهم إلى ذلك عالم الجيوسياسة الروسي كوندراتيف في دوراته المشهورة بإسمه، والتي تشكل أهمية كبيرة للجغرافيا السياسية لأنها تساعد في توليد دورات السلوك السياسي. حدد كوندراتيف أربعة دورات تاريخية رئيسية من منطلق التطور التكنولوجي بدءا من عصر الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر 1780. بدأ كوندراتيف بأول دورة وكانت على إثر إختراع الآلة البخارية وصناعة القطن بقيادة بريطانيا منذ 1780 وحتى 1848، ثم الدورة الثانية مع إختراع السكك الحديدية والصلب بقيادة بريطانيا أيضا منذ 1852 وحتى 1896، ثم الدورة الثالثة مع إختراع الكهرباء والسفن البخارية العملاقة بقيادة الولايات المتحدة وألمانيا منذ 1896 وحتى 1945، ثم الدورة الرابعة مع إختراع وصناعة البتروكيماويات بقيادة الولايات المتحدة كقوة عظمى منذ 1945 حتى تاريخ مفتوح لم يحدده كوندراتيف. أما الدورة الحالية للتاريخ فهي تبدأ فيما بعد 1973 ومن منظور تكنولوجي فهي ترتبط بالتكنولوجيا الفائقة وتكنولوجيا المعلومات التي تعرض لها شميدت وكوهين. ترتبط بتلك الدورات التاريخية دورات سلوك سياسي تتمثل أهمها في الهيمنة، فنجد أن دورة الهيمنة خلال الدورة الأولى والثانية هي للإمبراطورية البريطانية، بينما تتحول دورة الهيمنة الثانية للولايات المتحدة إعتبارا من الدورة التاريخية الثالثة بدءا من عام 1890. تمر كل دورة هيمنة بمراحل صعود وإنتصار ونضج ثم إنحدار، وهذا ما إنطبق بالكامل على الإمبراطورية البريطانية التي إنتهت بصعود الهيمنة الأمريكية والتي بدورها مرت بمراحل الصعود والإنتصار والنضج وبدأت مرحلة الإنحدار إعتبارا من 1973، إلا أن دورة الهيمنة التالية لم تتضح معالمها بعد. كان ذلك حديثا عن دورات تاريخية من حيث البعد الزماني، فماذا عن البعد المكاني؟ بمعنى أين تقع أماكن الهيمنة؟ يجيب علم الجغرافيا السياسية على هذا السؤال من خلال نظرية "قلب الأرض" للسير جون هالفورد ماكندر والتي تقول بأن: • من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على قلب الأرض (أوراسيا: غرب آسيا وشرق أوروبا) • من يسيطر على قلب العالم (أوراسيا) يسيطر على جزيرة العالم (قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا) • من يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم كله والآن ما علاقة كل هذا بالربيع العربي؟ إن العالم العربي يقع على الحافة الجنوبية لمنطقة أوراسيا، ولابد لأي قوة هيمنة لكي تسيطر على أوراسيا أن تتحكم في تلك الحافة وهذا ما أعطى للشرق الأوسط وفي قلبه مصر الأهمية الإستراتيجية عبر التاريخ. فبعد غياب الحضارة الفرعونية أصبحت مصر ممرا للغزوات الغربية وصولا للشرق بدءا من الإسكندر المقدوني الذي نجح في الوصول إلى الهند ثم نابليون الذي تعثر في مصر بسبب تدخل بريطانيا التي إحتلت مصر وفلسطين بعد ذلك وغيرهما من دول المنطقة لكي تؤمن طريقها للسيطرة على أوراسيا حتى أفغانستان وتوطد إمبراطوريتها وهيمنتها. بعد ذلك إحتل أفغانستان الإتحاد السوفييتي بنهاية الحرب الباردة ضد إستراتيجية قوة الهيمنة الجديدة؛ الولايات المتحدة وذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. مثَّل هذا الإحتلال نقطة تحول تميزت بأول إستخدام موسع لقوى الهيمنة الأمريكية للإسلام كعقيدة في حربها ضد الإتحاد السوفييتي طوال الثمانينيات. ومع خروج السوفييت من أفغانستان ثم سقوطه نهائيا من التاريخ عام 1989 كان لابد لقوى الهيمنة من وجود عدو يبرر تدخلها في أوراسيا مرورا بالعالم العربي، فكان الإسلام هو العدو المرشح لهذا الدور بإمتياز. من ثم إنقلبت سياسة الولايات المتحدة نحو الإسلام رأسا على عقب طوال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فصعد إلى واجهة السياسة العالمية الإرهاب الإسلامي ممثلا في ظاهرة بن لادن وطالبان تلامذة المخابرات المركزية نفسها! من خلال واقعة 11 سبتمبر الأشهر!. ثم إنتهى دور الإرهاب الإسلامي بعدما إستنفذت الولايات المتحدة كل وسائلها ومواردها في الحرب في كل من أفغانستان والعراق وإنتهى الأمر بالإنسحاب الذي تقرر ليكون في العام 2012، بعدما وصلت لأقصى ما يمكن تحقيقه بالغزو والإحتلال. على صعيد آخر، فمنذ أيام قليلة وبأواخر شهر نوفمبر الماضي (2011) وفي غمرة ضبابية أحداث الربيع العربي وصعود تيار الإسلام السياسي لم يلتفت الإعلام العربي إلا قليلا جدا (قناة الجزيرة) إلى حدث جيوسياسي ضخم، حيث قررت الولايات المتحدة تزويد القاعدة العسكرية بإستراليا بـ 2500 جندي مارينز أمريكي. حدث ذلك في إحتفالية كبيرة بالعاصمة الإسترالية حيث أعلن أوباما أنه على الجميع أن يعلم أن الأزمة الإقتصادية في أمريكا لن تمنعها من الإنتشار العسكري في نطاق جنوب شرق آسيا لتأمين مصالحها الإقتصادية، والمعني بهذا التحدي هو الصين طبعا. بهذا وطبقا لنظرية ماكندر فإن أمريكا بعد إنسحابها المزمع من أفغانستان والعراق، قد إنتقلت بثقل قواتها على الأرض من الحافة الداخلية لأوراسيا والتي تشمل العالم العربي، إلى الحافة الكبري عبر المحيط الباسيفيكي ومركزها إستراليا، والهدف هو محاصرة الصين؛ القوة المرشحة للمنافسة على الهيمنة العالمية من الجنوب حيث الحافة البحرية الكبرى، ومن الغرب حيث الإسلام السياسي الذي يمكن تجييشه عند اللزوم. من الصعب جدا الفصل بين تلك التحركات والتغيير في المواقع والمواقف وما يجري من أحداث الربيع العربي! بعد الإتهام بالإرهاب وبعد الغزو والإحتلال كان لابد للولايات المتحدة أن تبدأ دورة جديدة مع الإسلام، دورة يعود فيها إلى موقع الصداقة والتحالف ضد العدو الجديد وهو الصين التي أصبحت مصدر قلق لقوة الهيمنة الأمريكية بالفعل بسبب نموها الإقتصادي الذي يرشحها لتتخطى القوة الإقتصادية لأمريكا بعد سنوات، وبسبب بدء الصين في بناء قوتها العسكرية البحرية من العيار الثقيل، ناهيك عن مجال الفضاء. لعلنا لم ننس بعد أنه بعد إنقضاء حكم بوش واليمين المتطرف سارع الرئيس أوباما عام 2008 إلى أنقرة ثم القاهرة ليعلن تصالح قوة الهيمنة الأمريكية مع الإسلام بخطابة الشهير الذي غازل فيه العالم الإسلامي، وإختفى تعبير الإرهاب الإسلامي فجأة من كل وسائل الإعلام الغربية. بهذا التسلسل الزمني وتغير المواقف يمكننا أن نتصور دون خطأ كبير أن الربيع العربي ليس مفاجأة تماما! ربما يكون مفاجأة في التوقيت، ولكن يصعب من خلال المعرفة بالجيوسياسة إعتباره مفاجأة إستراتيجية! من هنا يمكن قراءة وفهم مشهد الربيع العربي من منظور الجيوسياسة بأنه مرحلة جديدة في الجيوستراتيجية العالمية التي تمثل فيها الجيوإستراتيجية الأمريكية الفاعل الأكبر، مرحلة الإعداد للصراع مع الصين كقوة هيمنة صاعدة على تحديد ماهية قوة الهيمنة الجديدة بعد وضوح إنحدار الهيمنة الأمريكية، مرحلة تستوجب التصالح مع الإسلام وهو الجار الغربي التاريخي للصين، ثم تخطط لإستخدامه كما تم إستخدامه من قبل ضد الإتحاد السوفييتي في أفغانستان. هل معنى ذلك أن الربيع العربي هو صناعة أمريكية خالصة؟ ليس بالضرورة، فلو نظرنا على المدى القصير فستكون الإجابة بالنفي غالبا، أما إذا نظرنا على المدى الإستراتيجي البعيد فلن نجد غرابة في أن تكون الولايات المتحدة قد عملت على إنضاج الحالة السياسية في العالم العربي وجعلها قابلة للإنتقال إلى المرحلة الجديدة في الصراع على الهيمنة، أو على أقل الفروض أنها إستقرأت المستقبل وتوقعت وإنتظرت نتائج عامل التكنولوجيا كما رأينا في مقالة شميدت وكوهين في مجلة فورين بوليسي قبل الثورة، وأنها تركت التوقيت التكتيكي للشعوب العربية لكي تحدده، وأن ما بدا من تردد موقفها أثناء الثورة ما هو إلا موقف تكتيتكي تنتظر فيه من هو المنتصر، قوى الإستبداد المتحالفة معها أصلا أم الثوار الذين يمكن إحتوائهم إذا إنتصروا، وذلك في الأجواء التصالحية مع الإسلام والتي تمت بالفعل منذ عامين. ربما جاء من هنا الصعود الصاعق للإسلام السياسي والذي يبدو مفاجئا لمن لا يعرف مدى وعمق الجيوإسترتيجي. إلا أن هذا لايعني بالضرورة أن هناك تحالفا بين قوى الهيمنة وتيار الإسلام السياسي الذي يسيطر على المشهد العربي السياسي الآن، بل إن الأمر قد لا يعدو أن يكون تخطيطا طويل المدى من جانب قوى الهيمنة، إستلهمت فيه الفلسفة بدءا من أطروحة صمويل هاننجتون بشأن صراع الحضارات في مطلع تسعينيات القرن العشرين، وإستوعبت فيه الدورات التاريخية لكوندراتيف، وإستلهمت فيه نظرية قلب الأرض لماكندر، وطبقت فيه إستراتيجية "رقعة الشطرنج الكبرى" لأجنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأسبق وقطب الجيوإسترتيجية الأمريكية، بحيث تتغير الإستراتيجيات والسياسات عند حلول مرحلة جديدة، وكما نرى بوادرها الآن. ربما يوضح ذلك أيضا موقف المجلس الأعلى العسكري في مصر، فمن المفترض أن به جنرالات درست وفهمت جيدا مادة الجغرافيا السياسية، سواء بحكم التنشئة والتدريب في أحضان الجيش الأمريكي، أو بالخبرة المتأصلة في الجيش المصري أو بالدراسة الذاتية المحلية. إن هذا الإفتراض يستتبع تفهم المجلس لإستراتيجية قوة الهيمنة الأمريكية، وفي مقدمتها ضرورة الحفاظ على رأس الحربة لهذه القوة والمسمى بإسرائيل. وإذا ما كانت كل هذه الإفتراضات صحيحة إلى حد ما فإن المجلس يكون مضطرا إلى إتباع سياسات توازن بين كل القوى المؤثرة الآن على المشهد المصري وهي قوة الهيمنة الأمريكية ورأس حربتها إسرائيل، وقوة الحليف الجديد لتلك القوة وهو الإسلام السياسي، وقوة مصر وإستقلالها النسبي متمثلا في قوات مسلحة وطنية، هذا بغض النظر عن مسألة إمتيازات أفراد المجلس. قد يبدو الآن سلوك تيار الإسلامي متعجرفا وصادما في كثير من تصرفات بعض رموزه إنتشاءا بخمر الإنتصار أخيرا وبعد ثمانين عاما على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، كما قد يبدو ساذجا ومزعجا في بعض تصرفات التيار السلفي الذي خرج من أحشاء الإستبداد، مما يثير نفس الأسئلة المتخوفة في كل من مصر وتونس والمغرب رغم الإختلاف النوعي بين التيارات الإسلامية والبنية الثقافية لقياداتها في كل بلد. إن الواقع الجيوسياسي والجيوإستراتيجي سرعان ما سيجبر من لا يعرفه من تيار الإسلام السياسي الصاعد بقوة وغرور بأن ينصاع إلى قوانين صراع قوى الهيمنة، وبأن يتعلم أصول الجغرافيا السياسية، هذا على فرض نجاحه داخليا في حل المأزق الأيديولوجي مع العلمانيين، وملئ الفجوة التنموية والإجتماعية، وإصلاح الوضع الإقتصادي المتردي أصلا، وتلك هي المعركة التي تشغل الرأي العام العربي في غياب المنظور الجيوسياسي. الربيع العربي الإسلامي بين التكنولوجيا والجيوسياسة:

'via Blog this'

No comments: